فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51] فيه الإظهار في محل الإضمار، لأن الأصل الظاهر. وما كنت متخذهم عضدًا، كقوله: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} والنكتة البلاغية في الأظهار في محل الإضمار في ذمه تعالى لهم بلفظ الإضلال. وقوله: {عَضُدًا} أي أعوانًا.
وفي هذه الآية الكريمة- التنبيه على أن الضاليم المضلين لا تنبغي الاستعانة بهم، والعبرو بعموم الألفاظ لا يخصوص الأسباب. والمعنى المذكور أشير له في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] والظهير: المعين. والمضلون: الذين يضلون أتباعهم عن طريق الحق. وقد قدمنا الضلاض وإطلاقاته في القرآن بشواهده العربية.
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)} أي واذكر يوم يقول الله جل وعلا للمشركين الذين كانوا يشركون معه الآلهة والأنداد من الأصنام وغيرها من المعبودات من دون رجمه الله توبيخًا لهم وتقريعًا: نادوا شركائي الذي زعمتم أنهم شركاء معي، فالمفعولان محذوفان: أي زعمتموهم شركاء لي كذبًا وافتراء. أي ادعوهم واستغيثوا بهم لينصروكم ويمنعوكم من عذابي، فدعوم فلم يستجيبوا لهم، أي فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من عدم استجابتهم لهم إذا دعوهم يوم القيامة جاء موضحًا في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة: القصص: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} [القصص: 62-64]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13-14]، وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6]، وقوله: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81-82]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94]، والآيات في تبرئهم منهم يوم القيامة، وعدم استجابتهم لهم كثيرة جدًا. وخطبة الشيطان المذكورة في سورة إبراهيم في قوله تعالى: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22]-إلى قوله- {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22] من قبيل ذلك المعنى المذكور في الآيات المذكورة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} اختلف العلماء فيه من ثلاق جهات:
الأولى- في المراد بالظرف الذي هو بين. والثانية- في مرجع الضمير. والثالثه- في المراد بالموبق. وسنذكر هنا أقوالهم، وما يظهر لنا رجحانه منها إن شاء الله تعالى.
أما الموبق: فقيل: المهلك. وقيل واد في جهنم. وقيل الموعد. قال صاحب الدر المنثورك أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} يقول: مهلكًا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {موبقًا} يقول: مهلكًا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {موبقًا} قال؟ واد في جهنم.
وأخرج عبد اله بن أحمد في زائد الزهد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن أنس في قوله: {وجعلنا بينهم موبقًا} قال: واد في جهنم من قيح ودم. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عمر في قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} قال: هو واد عميق في النار، فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة. وأخرج ابن الننذر وابن أبي حاتم عن عمرو البكالي قال: الموبق الذي ذكر الله: واد في النار، بعيد العقر، يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الأسلام وبين من سواهم من الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى: {موبقًا} قال: هو نهو يسيل نارًا على حافتية حيات أمثال البغال الدهم، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: إن في النار أربعة أودية يعذب الله بها أهلها: غليظ، وموبق، وأثام، وغي. انتهى كلام صاحب الدر المنثور. ونقل ابن جرير عن بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة: أن المربق: الموعد، واستدل لذلك بقوله: الشاعر:
وحاد شروري والستار فلم يدع ** تعارًا له والواديين بموبق

يعني بموعد. والتحقيق: أن المربق المهلك، من قولهم وبق يبق، كوعد يعد: إذا هلك. وفيه لغة أخرى وهي وبق يوبق كرجل يوجل. ولغة ثالثة ايضًا وهي: وبق يبق كورث يرث. ومعنى كل ذلك: الهلاك. والمصدر من وبق- بالفتح- الوبوق على القياس، والوبق. ومن وبق- بالكسر- الوبق بفتحتين على القياس. وأوبقته ذنوبه: أهلكته، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى: 34] أي يهلكهن، ومنه الحديث، «فموبق نفسه أو بائعها فمعتقها» وحديث: «السبع الموبقات» أي المهلكات، ومن هذا المعنى قول زهير:
ومن يشتري حسن الثناء بماله ** يصن عرضه عن كل شنعاء موبق

وقول من قال، إن الموبق العداوة، وقول من قال: إنه المجلس- كلاهما ظاهر السقوط. والتحقيق فيه هو ما قدمنا. واما أقوال العلماء في المراد بلفظة بين فعلى قول الحسن ومن وافقه: أن الموبق العداوة- فالمعنى واضح؛ أي وجعلنا بينهم عداوة؛ كقوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67] الآية، وقوله: {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. ولكن تفسير الموبق بالعداوة بعيد كما قدمنا. وقال بعض العلماء: المراد بلابين في الآيى: الوصل؛ أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا ملكًا لهم يوم القيامة؛ كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] أي المواصلات التي كانت بينهم في الدنيا. وكما قال: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82]، وكما قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] ونحو ذلك من الآيات. وقال بعض العلماء: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا}: جعلنا الهلاك بينهم؛ لأن كلًا منهم معين على هلاك الآخر لتعاونهم على الكفر والمعاصي فهم شركاء في العذاب، كما قال تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39]، وقوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38] ومعنى هذا القول مروي عن ابن زيد. وقال بعض العلماء {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا}: أي بين المؤمنين والكافرين مربقًا، أي مهلكًا يفصل بينهم، فالداخل فيه، في هلاك، والخارج عنه في عافية. وأظهر الأقوال عندي وأجرها على ظاهر القرآن، أن المعنى: وجعلنا بين الكفار وبين من كانوا يعبدونه ويشركونهم مع الله موبقًا أي مهلكًا، لأن الجميع يحيط بهم الهلاك من كل جانب، كما قال تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] الآية، وقوله: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] الآية، وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الآية. وقال ابن الأعرابي: كل شي حاجز بين شيئين يسمى موبقًا، نقله عنه القرطبي. وبما ذكرنا تعلم أن الضمير في قوله: {بينهم} قيل راجع إلى أهل النار. وقيل راجع إلى أهل الجنة وأهل النار معًا. وقيل راجع للمشركين وما كانوا يعبدونه من دون الله. وهذا هو أظهرها لدلالة ظاهره السياق عليه، لأن الله يقول: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} [الكهف: 52] قال مخبرًا عن العابدين والمعبودين: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} [الكهف: 52] أي مهلكًا يفصل بينهم ويحيط بهم. وهذا المعنى كقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28] الآية. أي فرقنا بينهم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {ويوم يقول} قراه عامة السبعة ما عدا حمزة بالساؤ المثناة التحتية، وقرأه حمزة {نقول} بنون العظمة، وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله، أي يقول هو أي الله. اهـ.

.قال الشعراوي:

{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
إن هذا الشيطان الذي واليتموه من دون الله، وأعطيتموه الميْزة، واستمعتم إليه ما أشهدتهم خَلْق السماوات والأرض مجرد المشاهدة، لم يحضروها لأن خَلْق السماوات والأرض كان قبل خَلْقهم، وكذلك ما شَهِدوا خَلْق أنفسهم؛ لأنهم ساعة خَلْقتهم لم يكونوا موجودين، إنهم لم يشهدوا شيئًا من ذلك لكي يخبروكم.
{وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51] أي: مساعدين ومعاونين ومساندين، فما أشهدتهم الخَلْق وما عاونوني فيه.
والعَضُد: هو القوة التي تُسعفك وتسندك، وهو مأخوذ من عَضُد الإنسان، حيث يزاول أغلب أعماله بيده، وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من الأعضاء قَبْضًا وبَسْطًا واتجاهًا يمينًا وشمالًا، وأعلى وأسفل، وكُلُّ هذه الحركات لابد لها من مُنظِّم أو موتور هو العضد، وفي حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آياتٌ عُظْمى تدلُّ على دِقَّة الصَّنْعة.
وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من الآلات الحديثة، تجد سائق البلدوزر مثلًا يقوم بعدة حركات لكي يُحرِّك هذه الآلة، أما أنت فتحرِّك يدك كما شئْتَ دون أن تعرف ماذا يحدث؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تُفكّر فيها دون جهد منك أو تدبير؟
فكل أجزائك مُسخَّرة لإرادتك، فإنْ أردتَ القيام مثلًا قمتَ على الفور؛ لذلك إياك أنْ تظن أنك خَلْق ميكانيكي، بل أنت صَنْعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا الآلات، بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن يُوقِف جزءًا منك أمر المخ أنْ يقطعَ صِلَته به، فيحدث الشلل التام، ولا تستطيع أنت دَفْعَه أو إصلاحه.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى في قصة موسى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي: نُقوِّيك ونُعطيك السَّنَد والعَوْن.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ}.
يعني: واذْكر يا محمد، ولتذْكُرْ معك أمتك هذا اليوم: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ} [الكهف: 52] يقول الحق سبحانه للكفار: ادعوا شركائي الذين اتخذتموهم من دوني. وزعمتم: أي: كذبتم في ادعائكم أنهم آلهة {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} [الكهف: 52].
وهذا من سماجتهم وتبجُّحهم وسوء أدبهم مع الحق سبحانه، فكان عليهم أنْ يخجلوا من الله، ويعودوا إلى الحق، ويعترفوا بما كذَّبوه، لكنهم تمادَوْا {فَدَعَوْهُمْ} [الكهف: 52] ويجوز أن من الشركاء أناسًا دون التكليف، وأناسًا فوق التكليف، فمثلًا منهم مَنْ قالوا: عيسى. ومنهم مَنْ قالوا: العزير، وهذا باطل، وهل استجابوا لهم؟
ومنهم مَنِ اتخذوا آلهة أخرى، كالشمس والقمر والأصنام وغيرها، ومنهم مَنْ عبد ناسًا مثلهم وأطاعوهم، وهؤلاء كانوا موجودين معهم، ويصح أنهم دَعَوْهم ونادوهم: تعالوا، جادلوا عنّا، وأخرجونا مما نحن فيه، لقد عبدناكم وكنا طَوْعَ أمركم، كما قال تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] ولكن، أنَّى لهم ما يريدون؟ فقد تقطعتْ بينهم الصلات، وانقطعت حجتهم {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} [الكهف: 52] ثم جعل الحق سبحانه بين الداعي والمدعو واديًا سحيقا: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} [الكهف: 52].
والمَوْبِق: المكان الذي يحصل فيه الهلاك، وهو وَادٍ من أودية جهنم يهلكون فيه جميعًا، أو: أن بين الداعي والمدعو مكانًا مُهْلكًا، فلا الداعي يستطيع أنْ يلوذَ بالمدعو، ولا المدعو يستطيع أنْ ينتَصرَ للداعي ويُسعفه، لأن بينهم منبعَ هلاك.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 34] يعني: يهلكهن.
ومن العجيب أن تكون هذه أولَ إطاعة منهم لله تعالى، فلما قال لهم: {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ} [الكهف: 52] استجابوا لهذا الأمر، في حين أنهم لم يطيعوا الأوامر الأخرى. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}.
أخرج ابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} قال: يقول ما أشهدت الشياطين الذين اتخذتم معي هذا {وما كنت متخذ المضلين} قال: الشياطين {عضدًا} قال: ولا اتخذتهم عضدًا على شيء عضدوني عليه فأعانوني.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {وما كنت متخذ المضلين عضدًا} قال: أعوانًا.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {وما كنت متخذ المضلين عضدًا} قال: أعوانًا.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي، عن ابن عباس في قوله: {وجعلنا بينهم موبقًا} يقول: مهلكًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {موبقًا} يقول: مهلكًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {موبقًا} قال: واد في جهنم.
وأخرج عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث، عن أنس في قوله: {وجعلنا بينهم موبقًا} قال: واد في جهنم من قيح ودم.
وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي، عن ابن عمر في قوله: {وجعلنا بينهم موبقًا} قال: هو واد عميق في النار، فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عمرو البكالي قال: الموبق الذي ذكر الله، واد في النار بعيد القعر يفرق به يوم القيامة بين أهل الإسلام، وبين من سواهم من الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله: {موبقًا} قال: هو نهر في النار يسيل نارًا، على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالإقتحام في النار منها.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن كعب قال: إن في النار أربعة أودية يعذب الله بها أهلها: غليظ، وموبق، وأثام، وغي. اهـ.